من الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي، فإذا نُصِح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقوامًا قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم
من الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي، فإذا نُصِح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقوامًا قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأكلهم الربا وقد نُهوا عنه، ومع ذلك نراهم وقد دُرَّت عليهم الأرزاق، وأُنْسِئت لهم الآجال، وهم يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال؟
ولا ريب أنَّ هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله، وبسننه -عزَّ وجل-.
ويقال لهذا وأمثاله: رويدك، رويدك؛ فالله -عزَّ وجل- يعطي الدنيا لمن أحب، ولمن لا يحب؛ وهؤلاء المذكورون مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون؛ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ فما الذي هم فيه من النعيم إلَّا استدراج، وإمهال، وإملاء من الله -عزَّ وجل- حتى إذا أخذهم؛ أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه)، ثم قرأ قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إذا رأيت الله -عزَّ وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنَّما هو استدراج)، ثم تلا قوله - عز وجل -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: 44-45].
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "فكل ظالم معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنبٍ ذنبًا، وهو معنى قوله -تعالى-: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء: 123].
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن أن لا عقوبة، وغفلتُه عمَّا عُوقِب به عقوبة.
وقد قال بعض الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة، وربما كان العقاب العاجل معنويًَّا، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك، ولا تعاقبني! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري؟! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟".
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإنَّ نارها تحت الرماد، وربما تأخَّرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة".
وقال: "قد تبغت العقوبات، وقد يؤخِّرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة؛ فكم مغرورٍ بإمهال العصاة لم يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النُّهى، فتكون كالمعاندة والمبارزة، فإن كانت تُوجِب اعتراضًا على الخالق، أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تُتلافى، خصوصًا إذا وقعت من عارف بالله؛ فإنه يندر إهماله".
وقال: "فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة؛ فإن لها تأثيراتٍ قبيحةً إن أسْرَعَتْ، وإلا اجتمعتْ وجاءتْ".